ما حصل لسامي ريشي

كما علمه أبوه أن يفعل كل ثاني يوم، استيقظ سامي في السادسة صباحاً وذهب للاصطفاف في طابور المنتظرين أمام الفرن لشراء الخبز. عندما عاد في الساعة السابعة كان أبوه وأمه وأختاه ما زالوا نائمين. لف الخبز بثوب قديم كانت أمه ترتديه لأبيه حين يعود من العمل ثم ركنه على الدكّة الحجرية ثم دخل إلى المرحاض ووقف يبول مقنطراً بوله الغزير إلى الفتحة التي خرج منها في أحد الأيام جرذ وعاث فساداً في البيت.

حدث انفجار رهيب اهتز له البيت بأكمله وانقذف سامي إلى جدار المرحاض بقوة لا ترحم في الوقت الذي اندفع فيه تيار من الهواء الساخن والأتربة وقطع الحجارة والأخشاب والزجاج والدماء ولا يعرف غير الله ماذا أيضاً من طرف النوافذ المطلة على الشارع مروراً بغرفتي النوم والصالة ثم الممر الواصل إلى المطبخ والمرحاض.

هرع المسعفون من الجيران والمارة إلى المبنى المصاب وقد لاحظوا كيف أن واجهة المبنى قد انهارت بشكل كامل وعندما دخلوا إلى بيت سامي من خلال الباب المحطم اكتشفوا أربع جثث مشوهة مدفونة في الحطام ثم اكتشفوا سامي مغمى عليه على أرض المرحاض وثيابه ملوثة بالبول والدم.

نقلوه بشاحنة دايهاتسو صغيرة إلى مشفى سري تديره مؤسسة أطباء بلا حدود. هناك اكتشف الطبيب الإيطالي الذي استلمه أول وصوله كسراً في الكتف الأيسر ونزيفاً في الأذن اليمنى وارتجاجاً في الدماغ وجروحاً أخرى لا قيمة لها. لم تكن حياته في خطر ولكنهم أبقوه تحت الملاحظة في ركن في أحد الأقبية الملحقة بالمشفى ريثما يفيق من غيبوبته.

عندما فتح عينيه بعد ثلاثة أيام وجد سامي جدته تصلي وهي جالسة على كرسي بجانب سريره عندئذ قطعت الجدة صلاتها لتحتضنه وتنهال عليه تقبيلاً بفمها الأجرد فقد كانت قد نسيت طقم أسنانها في البيت حين هرعت، عندما جاء من يخبرها بالقذيفة، إلى المقبرة أولاً لتدفن ابنها وكنتها وحفيدتيها ثم إلى المستشفى لتعتني بحفيدها.

في اليوم التالي طلب الطبيب الايطالي من الجدة أن تأخذ حفيدها إلى البيت فالمكان ضيق وسيل الجرحى لم يكن يتوقف.

نقلته الجدة إلى بيتها الكائن في “صلاح الدين”. كان البيت عبارة عن ثلاث غرف إلا أنها وقبل سنة من الآن كانت قد استقبلت امرأة مع طفلها ذي السنتين ليشغلا إحدى الغرف بينما شغلت الجدة الغرفة الأخرى وتركت الثالثة للجلوس ومشاهدة التلفزيون حين تأتي الكهرباء. ولكن الكهرباء قلما تأتي فكانوا يمضون أغلب الليالي جالسين على ضوء الشموع. كان بيت المرأة التي تدعى فدوى قد دمر تماماً بينما زوجها الشاب قد اختفى عند أحد حواجز الجيش عندما كان عائداً من العمل. وكما كانت تقول: تشندلنا.

تحولت الكنبة في غرفة الجلوس إلى سرير لسامي.

شيء غريب طرأ على سامي بعد الحادث فقد أصبح مقلاً في كل شيء. أصبح أكله قليلاً وشربه قليلاً وكلامه معدوماً تقريباً. أصبحت فدوى تساعد الجدة في العناية بسامي، وكانت قد سألت الجدة عن عمر الولد فأخبرتها بأنها لا تتذكر في أي عام ولد ولكنه ربما في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. ولكنه في الواقع في الرابعة عشرة. ابتسمت فدوى وقالت بأنه ما يزال صبياً صغيراً وهي لن تتحجب أمامه.

كان سامي أيضاً يطيل النظر إلى الأشياء. يحدق بصمت ولا ينبس بكلمة. في البداية شعرت فدوى بالحرج حين كانت تراه يحدق فيها بدون أي تعبير على وجهه ثم لم تعد تهتم، فهو مريض.

– سقم وعمى حالنا هذه الأيام، قالت فدوى للجدة وهي تشير برأسها إلى سامي، هذه الحرب لم تكن على البال.

زفرت الجدة بحزن وأسى فقد فقدت أصغر أولادها وعائلته أما أولادها الثلاثة الآخرون فيعلم الله أين هم الآن. قررت أن تصلي فهذا أفضل شيء يمكن القيام به في الوقت الحالي.

سعيد كان اسم الطفل وكان سعيداً لأنه لم يكن يفهم ما  كان يجري في المدينة، ثم أن أمه لم تكن تضربه حين يتبرز في ثيابه. وقد حسب أنه كسب شخصاً يلعب معه حين عادت الجدة ومعها سامي يحمله بعض المتطوعين من أصحاب النخوة، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن هذا الشخص لا يلعب ولا يحكي ولا يضحك ولا يبكي، كان فقط ينظر إليه بدون أي انطباع على الوجه. مسطّح.

– سقم وعمى، ردد هو أيضاً مقلداً أمه.

كان سامي ومن مكانه على الكنبة في الصالة يسمع في الليل بكاء فدوى فقد كانت تبكي غياب زوجها وتشعر بفراقه وخاصة في الليالي. لم يعد هنا ليضمها ويقبلها وينام فوقها. كان بكاؤها خافتاً ولكن مديداً ويبدو أنها كانت أثناء ذلك تضم ابنها سعيد إلى صدرها وتقبله وفي كثير من الأحيان كان الولد يستيقظ ويشرع بالصراخ.

وفي إحدى المرات نهض سامي ليبول. فتح باب الحمام فشاهد فدوى وهي تستحم ومعها الطفل. كانت عارية تماماً وهي تحمم الطفل الذي حصرته بين فخذيها. احتضنت الطفل لتخفي ثدييها عن عيني سامي الذي وقف ينظر. سامي لم يعد يفهم أن النظر طويلاً إلى الآخرين وهم يستحمون غير لائق وحرام. طلبت منه أن يغلق الباب ولكنه ظل واقفاً ينظر حتى جاءت الجدة وسحبته وأغلقت الباب. حينئذ مسحت العرق عن وجهها فقد أصيبت بالحرج الشديد رغم إنها كانت متأكدة بأن الصبي لم ير كل شيء فقد كانت الكهرباء مقطوعة كالعادة والطاقة الصغيرة لا تدخل ضوءاً كافياً.

بعد شهرين أخذته جدته إلى المشفى ليزيلوا الجبيرة عن كتفه ولكن المبنى كان قد قصف ودمر. قالوا لها بأن المشفى لم يعد موجوداً وأن الطبيب الايطالي قد قتل ودفن في الحديقة. ذهبت به إلى عيادة أحد أطباء العظام فأزال الجبيرة وأخذ منها مبلغاً كبيراً من المال. كان الجلد محمراً وعليه بعض الالتهابات. قالت الجدة لفدوى بأن سامي كان يعاني من حكّة رهيبة ولكنه لم يكن يفهم. أصبحتا تتناوبان على دهن جسد سامي بزيت الزيتون.

أصبحت جدته تضع له كرسياً على البلكون وتجعله يجلس هناك ليعرض جسمه للهواء والشمس. كان ينظر إلى الناس في الأسفل بصمت دون أن يجول بعينيه كثيراً. كان يشاهد المارة والباعة وهم يصرخون منادين على بضائعهم. أيضاً كان ينظر إلى الأطفال وهم يركضون ويلعبون ويتصارعون. أما الأصوات فحدث ولا حرج. أصوات من كل شكل ونوع ومصدر. تعتقد الجدة أن الأصوات جيدة لحالته حتى ولو كانت أصوات المعارك والانفجارات.

كانت فدوى تنضم إليه للجلوس على البلكون وقد أخفت شعرها. تجلس وهي تفصفص بزور عباد الشمس. في كثير من الأحيان كان يحول عينيه إليها ويبقيها هناك، وعندما كانت تصنع لنفسها فنجان قهوة تطلب منه أن يتذوقها. أصبحت تتحدث إليه وبذلك صنعت منه مستمعاً محترماً لتاريخها.

أخبرته كيف خطبها محمود من أبيها رحمة الله عليه وكيف أصر محمود على إحضار مغنٍ رغم الحرب. قالت له بأن محمود شخص لطيف جداً وكان يحبها ويدللها وأنها تشعر بفراقه ولكن الله كريم فلسوف يعيده إليها قريباً. كان سامي ينظر إليها حين كانت تتحدث وحين كانت تصمت أيضاً.

كانت فدوى تساعد الجدة بالعناية بسامي فقد كانت تطعمه بيدها لأنه كان بحاجة إلى من يطعمه. حين يأكل بمفرده كان ينسى الطعام ويظل ينظر إلى الصحن ساهياً عن كل شيء حوله. كانت تمسح له وجهه وصدره بخرقة مبللة في أيام الحر أما حمامه فقد كان من مهام الجدة لأنها لا يمكن أن تتواجد حين تعريه الجدة. ولكنها كانت تفتح باب الحمام لتأخذه بعد أن يكون قد ارتدى كلسونه. كانت تأخذه من يده إلى الكنبة وتكمل إلباسه.

كانت تحب أن تلمس صدره العاري ويديه وساقيه وتتشممه بعد الحمام:

– أصبحت نظيفاً يا سامي ورائحتك مثل المسك. نيّال المرأة التي ستحظى بك.

ثم تجرأت مرة واحتضنته بشكل خاطف، وعندما هدأ ارتجاف قلبها احتضنته طويلاً حتى أنها قبلته على خديه.

كانت الجدة ترافق فدوى إلى المراكز الأمنية للسؤال عن محمود فقد كانت تخاف عليها إن هي ذهبت بمفردها. فدوى شابة جميلة وجذابة والجدة تخاف أن يتم اختطافها أو التعدي عليها واغتصابها. كانتا تجتازان الخط الفاصل بين المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والمناطق الخاضعة لسلطة الحكومة. ذلك كان يستغرقهما ساعات وعندما تصبحان في الطرف الآخر كانتا تتوجهان إلى مركز أمني كبير ومشهور وهناك كانتا تتسولان أي معلومة عن محمود زوج فدوى التي كانت تبكي لكي يرق قلب العنصر الأمني فيفتح دفتره ليبحث عن الاسم والكنية ومتى اختفى وأين هو الآن. في معظم الأحيان كانوا يقولون أنه ليس عندنا، أو أنهم متأكدون أن العصابات المسلحة هي التي اختطفته، أو عودا مرة ثانية فربما عرفنا شيئاً. سقم وعمى.

وفي إحدى المرات اندلع القتال بين الطرفين عند المعبر فاضطرتا للنوم في الشارع قريباً من مبنى مدمر حتى الصباح، أما في البيت فقد نام سعيد تلك الليلة على الكنبة بجانب سامي إلا أنه لم يحك له حكاية أو يغني له. فقط سمح له أن يتوسد ذراعه ثم غرق في نومة لذيذة بينما ظل سامي مفتوح العينين يستمع إلى أصوات تبادل النيران والقذائف.

كانت فدوى والجدة تذهبان إلى السوق لشراء ما تحتاجان إليه بالتناوب. أما الآن فقد بدأتا باصطحاب الولدين. كانت هذه فكرة فدوى فبرأيها أن على سامي أن يجول في الحي ليعود طبيعياً. والسوق لا يبعد عن بيت الجدة شيئاً لأن عربات الخضروات استقرت أخيراً في الشوارع المحيطة خوفاً من القصف وأصبح التجمهر في ساحة واحدة خطراً جداً بعد أن تم قصف وتفجير عدة أسواق. كانت الأسعار ترتفع باستمرار مما يجعل المرأتين عصبيتي المزاج.

الناس لا يأبهون للخطر حتى أن الأطفال يمضون وقتاً طويلاً في اللعب في خرائب الأبنية المدمرة. أصبح سعيد ينضم إلى الأولاد ليلعب معهم بينما تتركهما فدوى لتذهب وتنهي مشترياتها بسرعة. كان سامي يجلس على الحطام يراقب سعيد دون أن يرفع عينيه عنه.

بعد ذلك أصبح سامي وسعيد ينزلان إلى الشارع بمفردهما. كان سامي يمسك بيد الصغير ويسيران في الحي في دائرة ثم ينتظره اذا أراد أن ينضم إلى لعبة ما فيجلس ليحدق فيه دون تعب أو إرهاق. تظل المرأتان قلقتين حتى يعودا خاصة عندما يشتد القتال. وفي إحدى المرات سقطت قذيفة مدفع قرب المبنى وبالتحديد على بسطة بائع بطيخ فتناثرت بقايا البطيخ الأحمر في كل الأرجاء مختلطة بدماء البائع والزبون الذي كان يشتري. كان سامي جالساً غير بعيد عن مكان سقوط القذيفة وكان ينظر باتجاه البسطة. لم يصب إلا بجزء من بطيخة. جاءت “سقم وعمى” راكضة تولول لا تلوي على شيء. كانت قد نسيت، بسبب رعبها على الولدين، أن تضع الحجاب على رأسها.

حين عادت بهما إلى البيت قالت فدوى للجدة إنها ستغيّر ثيابها وتغتسل لأنها شخّت من الرعبة.

اعتادت فدوى أن تحكي لابنها سعيد حكايات لكي تجعله ينام، أما الآن فقد راحت تحكي له في المساء أيضاً لكي لا يتأفف وينسى موضوع النزول إلى الشارع للعب. كانت تضع ابنها في السرير وتجلس إلى جانبه وتحكي له عن الأميرات والأمراء والجنيّات أيضاً. ومؤخراً ضمت سامي إليهما ليستمع إلى الحكايات فقد أصبحت تميل إليه بشدة وتسعد بوجوده. كانت تجلس في الوسط بينما يلوي الولدان رأسيهما ينظران إليها على ضوء الشمعة. كانت فدوى معين لا ينضب من الحكايات حفظتها عن أمها وجدتها، وفي كثير من الأحيان كانت تخترع حكايات من عقلها. وعندما كانت تتوقف لتتمخط أو لتسلك حنجرتها كان سعيد يلكزها وهو يأمرها: “أكملي بسرعة”. وفي إحدى المرات نام سعيد دون أن تشعر به أمه التي استمرت في سرد حكايتها فقد كان سامي يستمع وهو ينظر إليها. توقفت فدوى لتتفقد ابنها الذي يغط في النوم فلمسها سامي وقال لها: “أكملي..” استدارت إليه متفاجئة فقد عاد إلى الكلام.

أمسكت به وهي سعيدة وهي تردد:

– أنت حكيت.. سامي أنت حكيت.

ولم تجد نفسها إلا وهي تقبله ثم نهضت فرحة لتخبر الجدة. كان ذلك يوم عيد. في الليلة التالية مال عليها دون إنذار وقبلها على خدها. وقف شعر رأسها. نظرت إليه مستغربة فوجدته ينظر إليها بعينيه السود الواسعتين. يا إلهي كم هو جميل هذا الصبي. جماله يشفع له.

أخذ سامي كرسياً ونزل إلى الشارع ليجلس على باب المبنى. فهمت المرأتان بأن روحه قد طقت من الجلوس في البيت وأنه يريد أن يتسلى. جلس يتفرج على المارة والباعة المتجولين. سدد نظره إلى بائع البندورة وتحول إلى تمثال. أصبح الناس في الشارع وكل الحارة يعرفونه ويعرفون علته حتى أن بعض الباعة يأتونه بشيء يأكله. في ذلك اليوم قدم له البائع حبة بندورة بعد أن غسلها بماء عكر وراح سامي يأكلها ويشرق عصيرها.

بعد مدة أنزلت فدوى ابنها ليجلس مع سامي ولكنها لم تجده. وجدت الكرسي فارغاً. نظرت إلى هذه الجهة وتلك ولكن لم تر للصبي أثراً. صعدت إلى الجدة وأخبرتها ثم نزلت للبحث عنه في الشوارع المحيطة. سمعت إطلاق رصاص كثيف وبعض الانفجارات فصعدت الحرارة إلى رأسها.

مشى سامي في الشوارع المحيطة ببيت الجدة. كان يتذكرها بشكل جيد ثم تجاوز المحيط وسار. كان ينظر إلى الأمام ويسير. رأى الكثير من الأبنية المدمرة كما شاهد بعض المسلحين متمركزين في أطلال الأبنية المصابة بالقذائف. انعطف نحو اليمين فشاهد تلالاً من الأتربة وحطام الأبنية وبعض السيارات المحترقة تسد الشارع. كان يسمع إطلاق النار من حوله وبشكل قريب هذه المرة. وقف ينظر إلى التلال والى الأبنية في ما بعد التلال. كعادته كان واقفاً يحدق. مرت رصاصة قرب رأسه ثم أصابت أخرى لافتة معدنية خرمتها الطلقات تدعو السائقين للانتباه بسبب وجود أطفال يعبرون الشارع. على مسافة خمسين متراً رأى جثة امرأة منبطحة وقد ارتدت معطفاً وغطت رأسها بحجاب أسود.

شعر فجأة بشخص يمسك به ويركض عائداً به إلى المنعطف. سقط سامي على الأرض فبقي جالساً. كان الرجل مسلحاً ببندقية آلية ويرتدي بدلة مموهة ويلف رأسه بكوفية. كان يصرخ عليه ويؤنبه. تجمع حوله مسلحون آخرون. من أنت؟ هل أنت مجنون؟ هناك قنّاص من الجيش يطلق النار على الناس. ظل سامي جالساً ينظر إلى الشخص الأول فقط. أخيراً فهموا أنه ليس على ما يرام ولديه مشكلة. عندها أنهضه أحدهم ومشى به إلى مبنى مصاب بقذائف وأجلسه في ما يشبه الغرفة ولكن دون واجهة. قال له: اقعد هنا ولا تتحرك!

جلس وراح ينظر إلى الخارج دون أن يلتفت. كان المسلحون يأتون ويذهبون. يدخنون ويتناقشون بينما واحد منهم يتحدث باستمرار في جهاز لاسلكي.

قدموا له الشاي ثم قطعة خبز ثم أعطوه لوحة مربعة من خشب المعاكس معلقة على عصا مكتوب عليها “احذر، قنّاص..” وطلبوا منه أن يقف قبل المنعطف ليحذر الناس. وقف هناك دون حراك ممسكاً باللوحة. الآن أصبح ينظر إلى شقة محترقة. جاء رجل مسن محني الظهر وعندما شاهد اللوحة عاد من حيث أتى. أصبح مفيداً.

هبط الظلام. جاء مسلح وعاد به إلى حيث شَرِبَ الشاي. سألوه عن اسمه واسم أبيه وعائلته. سألوه أين يسكن. أخيراً قال أحدهم إنه ربما يسكن في الطرف الآخر وبما أنه جاء ليعبر فمن الأفضل أن يدلوه على طريق آمن ليصل إلى الناحية الأخرى.

أخذه الذي قال ذلك من يده ومشى به في طرق مختلفة حتى أنه مشى به من شقة مدمرة إلى أخرى عبر فتحات في الجدران. أخيراً قال له بأنه الآن في الطرف الآخر ودله كيف يسير حتى يصل إلى تلك الأنوار التي هي لشارع تسير عليه السيارات. صافحه ودعا له بالتوفيق ثم عاد المسلح من حيث جاءا. مشى سامي باتجاه الأنوار حتى وصل إليها، وهناك نام على مقعد في حديقة.

“سقم وعمى” قالت فدوى وهي جالسة على الكنبة بينما ابنها نائم يتوسد فخذها. كانت الجدة جالسة على الأرض. كان الصمت والقلق مخيمان على البيت. لقد بحثتا عن سامي طوال اليوم دون جدوى. قالت الجدة بأنها ما كان عليها أن تسمح له بالنزول بمفرده إلى الشارع. قالت فدوى بأنها هي السبب فقد كان عليها أن تنزل للجلوس معه فردت عليها الجدة بأن لا ذنب لها.

لقد ضاع سامي أو ربما قتل فقد سمعتا تبادلاً قوياً للنيران قريباً من الحي. أو ربما هو جريح في أحد المستشفيات السرية التي اعتادوا إقامتها في أقبية الأبنية. ولكن الجدة لم تكن تشعر بانقباض في صدرها كما شعرت قبل أن يقصف بيتهم، قالت ذلك وهذا برأيها دليل على أن الصبي بخير. قالت فدوى من فمك لأبواب السماء، هيا بنا ننم والصباح رباح.

استلقتا كلٌ في سريرها. ولكن فدوى لم تغفُ لتوها فقد اعتادت أن تفكر بمحمود قبل النوم، أما تلك الليلة فقد فكرت بمحمود وسامي معاً.

استيقظ سامي قبل طلوع الشمس وعاد للسير. كان يشعر بجوع خفيف ولكنه لم يكن يمتلك المال لشراء سندوتش فلافل. كان يتذكر تلك الأحياء أيضاً فقد كان يحب المشي في الماضي وقد جال كل هذه الأرجاء على قدميه قبل أن يشتري له أبوه دراجة هوائية. أين هي الآن؟ من المفترض أن تكون مربوطة بأنبوب تصريف المياه خارج العمارة. هل يمكن أن تكون الدراجة سليمة بالرغم من دمار العمارة؟

لاحظ بأن الدمار في هذا الجزء من المدينة أقل منه بكثير عما في منطقتهم، كما لاحظ أن الكهرباء متوفرة أكثر ولكنه لاحظ أيضاً أن المنطقة تعج باللاجئين الهاربين من قصف جيش الحكومة العشوائي لمناطقهم.

وجد نفسه في مواجهة حاجز عسكري. كان عبارة عن براميل وعليها أكياس الرمل وجرى تضييق الشارع لكي تتوقف السيارات عند الحاجز الواحدة تلو الأخرى. كانت البراميل ملونة بالعلم الوطني بينما ألصقوا صور رئيس الجمهورية بالبدلة العسكرية في كل مكان. كانوا يدققون بهويات ركاب ميكروباص.

وقف كعادته وراح يحدق بالحاجز والعساكر والسيارات. وكالعادة لم تدر في ذهنه أي فكرة ولم يكن يركز على شيء البتة، فقط كان يقف وينظر ساهياً عن كل ما حوله. بدأت حركة الناس والحافلات تزداد ولفت انتباه البعض. انتبه إليه أيضاً أحد الجنود على الحاجز. نبه الجندي رئيسه فوقف هذا وراح ينظر إلى الصبي ثم أمر الجندي ليذهب ويحضره على أن يتأهب لكل طارئ.

أوقفوه أمام القائد وفتشوه. لم يجدوا معه ولا نكلة. لا أوراق ولا نقود ولا مفاتيح. جيوبه تصفر صفيراً. راح القائد يستجوبه:

– ما اسمك وما اسم أبيك أو أمك؟ أين تسكن وماذا تفعل هنا؟ لماذا تقف وتنظر إلينا؟ هل أرسلك أحد لتتجسس علينا؟

سأله عن كل شيء يخطر في البال ولكن سامي كان ينظر إلى رتبة القائد المرقومة على كتفيه. نهض الضابط وصفعه على خده بقوة أطاحت به وسقط على الأرض. جلس ولم ينهض. أمروه أن ينهض ولكنه لم يفعل. ربما لم يكن يفهم ماذا يريدون منه أن يفعل. استل القائد مسدسه من حزامه وخرطشه ثم أمره من جديد أن يقف على قدميه. قال أحد الجنود: فالج لا تعالج. كاد أن يطلق النار على ما بين تلك العينين اللتين تنظران إليه بثبات لولا أن صاحت امرأة من نافذة ميكروباص متوقف للتفتيش ترجو القائد:

– يا سيدي ألا ترى أن الولد مسكين؟

– مسكين؟ سأل الضابط وقد رفع عينيه فشاهد كيف أن جميع الجنود وركاب الحافلات والناس المتجمهرين ينظرون إلى ما يجري. فقالت المرأة:

– نعم، إنه متخلف. يظهر عليه أنه غير طبيعي، سامحه فقلبك طيب.

فكر الضابط للحظة ثم ابتسم وأعاد المسدس إلى خصره ثم مد يده ولمس رأس الصبي برفق.

أجلسوه على حجر وقدموا له الشاي. ثم وصل الإفطار وكان عبارة عن قصعة فول وكيلو بصل فطلبوا منه أن يشاركهم. كان جائعاً فالتهم ما قدموه له بشراهة. بقي جالساً ينظر فحسب إلى كل سيارة تقف للتفتيش دون أن ترمش له عين. كان الضابط يراقبه وفجأة خطر في باله أن يقدم له سيكارة. أمسك بها سامي واحتار في البداية ماذا يفعل بها. ساعده الضابط ليضعها بين شفتيه ثم أشعلها له. تذكر سامي كيف كان أبوه يدخن فراح يفعل المثل، إلا أنه راح يسعل. ضحك الضابط وضحك الجنود ثم طلبوا منه الرحيل.

ظل سامي يتجول في شوارع منطقة الحكومة لثلاثة أيام. كان في معظم الأحيان يضيّع طريقه ولكن سرعان ما يجد شارعاً يتذكره. مر من أمام معظم البيوت التي يسكن فيها أناس يعرفهم مثل بيت خالته صبيحة التي كانت معلمة مدرسة وكانت تعطيه النقود كلما التقى بها. إلا أنه لم يطرق بابها بل وقف ساعات أمام بيتها ينظر إلى السور الذي أضافوا إليه ألواح الصاج ليمنعوا العيون من التطفل. لم يكن ير سوى ألواح الصاج الأسود.

أيضاً مر من أمام بيتين لرفيقين في المدرسة. وقف لمدة ساعة أمام كل عمارة منهما.

كان ينام في الحدائق العامة وفي المدارس التي حولوها إلى ملاجئ للنازحين من مناطق المعارضة.

وفي إحدى المرات قبض عليه شرطي مسلح ببندقية آلية وهو نائم على العشب وقاده إلى القسم وهناك عجزوا عن أن يجعلوه يتكلم فتركوه يرحل.

فجأة خطر في باله الذهاب ليتفقد دراجته.

وجد نقطة العبور إلى الجهة الأخرى بسهولة فاجتازها ثم اخترق مجموعة المباني عبر الفتحات في جدران الغرف كما علمه الرجل المسلح. كان يقابل العديد منهم ويتركونه يمر، وأخيراً وصل إلى المنعطف حيث يتواجد القنّاص. وجد لوحة التحذير مركونة هناك لتحذير الناس فوقف لصق الجدار رافعاً اللوحة.

بعد قليل جاء عدد من المسلحين الذين عرف البعض منهم في المرة الأولى. رحبوا به. صافحوه وربتوا على كتفيه بسعادة. شعر هو أيضاً بالسرور لأنه التقى بهم من جديد. قدموا له قدحاً من الشاي وتفاحة ثم تركوه يقوم بعمله.

في ذلك الوقت كانت المرأتان ومعهما سعيد تبحثان عنه في المشافي العلنية والسرية كما سألتا عنه في بعض المساجد. كانت النتيجة صفراً، ومن حظهما أنهما عادا إلى المنزل قبل أن يندلع قتال عنيف جعل الشوارع تخلو من المارة.

ركن سامي اللوحة إلى الجدار ثم مشى مبتعداً. كان يعرف كيف يصل إلى بيتهم المدمر ليتفقد الدراجة. مشى ملتفاً حول المناطق الساخنة حتى وصل إلى ما كانت يوماً عمارتهم. كان القسم الأمامي منها قد تهدم بينما بقي القسم الخلفي قائماً. وقف ينظر. شاهد النصف الآخر من الغرف والممر المفضي إلى المطبخ والحمام والمرحاض حيث كان عندما ضربت القذيفة المبنى. شاهد لوحة لجبال الألب السويسرية ما تزال معلقة على الجدار في مواجهة السماء.

عوضاً عن الدراجة شاهد في المقدمة ركام ما تهدم من المبنى. ظل واقفاً ينظر إلى الأعلى. تعرف عليه صاحب الدكان الذي يبيع كل ما يخطر على البال والقريب من عمارتهم. كان رجلاً كريهاً ولكنه اقترب الآن وكلمه بلطف وهنأه بالسلامة. سأل عن حاله وأين يسكن الآن. سأله عن أمور كثيرة وترحم على أبي سامي وأم سامي وباقي الأموات. لم يفتح سامي فمه بل ظل ينظر إلى الأعلى. أمسكه من ذراعه وقاده إلى الدكان وهناك قدم له كازوزة وجعله يجلس ليشربها بهناء. ثم قدم له حقيبة مغبرة وقال له إن فيها أشياء تخصهم، كانت متناثرة هنا وهناك على حطام بيتهم وهي ملكه الآن.

شرب الكازوزة وظل جالساً لفترة ينظر إلى مطربان من الزجاج يحتوي على قطع حلوى ذات ألوان جميلة. نهض وغادر الدكان حاملاً الحقيبة. نسي أن يسأل البائع عن الدراجة. بعد نصف ساعة كان يصعد درج بيت الجدة.

فتحت فدوى الباب فوجدته أمامها يحمل حقيبة سفر متوسطة الحجم. صاحت تخبر الجدة: يا حاجة رجع سامي. الطفل راح ينط وهو يردد كلام أمه. جرته فدوى إلى الداخل ثم احتضنته وقبلت رأسه عدة مرات. ضغطت جسده إلى جسدها بقوة من فرحها ثم أفرجت عنه. جاءت الجدة وقد كانت في قيلولة واحتضنته هي الأخرى وراحت تقبله: تقبر عظامي يا سامي.. تقبر عظامي. كان مستسلماً للعناق والقبلات وهو يستمر في النظر إلى سعيد.

أرادتا أن تعرفا أين كان ولكنه لم يقل شيئاً. أين كنت؟ هل ضعت ولم تعرف طريق العودة؟ أين كنت تنام؟ هل أنت جائع؟ ثم تذكرا الحقيبة المتروكة قرب الباب، هل كنت مسافراً؟

فتحت فدوى الحقيبة فوجدتها مليئة بأشياء تخص سامي وأبيه وأمه وأختيه. أشياء مثل كتب مدرسية وقميص نوم نسائي وكرافتة وسترة الأب وفيها محفظته التي تحتوي على بعض الأموال وعلبة ماكياج وحذاء بناتي وأوراق ملكية البيت المدمّر وبعض الصور لأفراد الأسرة يظهرون فيها سعداء وضاحكين، وأشياء أخرى مثل بطاقة سامي المدرسية وشهادة نجاحه في الصف السادس وتظهر فيها علاماته الجيدة جداً.

قالت الجدة وهي تنظر إلى الصورة التي على بطاقته المدرسية:

– ما أجملك يا سامي. فأمسكت به فدوى من جديد وراحت تقبل رأسه:

– لَكَ فقدة يا سامي، خفنا عليك من السقم والعمى.

بعودة سامي استعاد البيت هدوءه وطمأنينته ولكن الأمور لم تكن على ما يرام في المدينة فقد كانت المعارك تشتد بين حين وآخر بينما القذائف تهدد الجميع فلم يكن أحد يتنبأ متى ستسقط وعلى رأس من ستنفجر إحدى هذه القذائف أو الصواريخ. أما الشيخ عبد الرزاق، ذو الهيئة الدميمة والصوت الحلو، فلم يكن ينتهي من الإعلان، في مكبر صوت مئذنة مسجده في الحي، عن انتقال فلان أو علاّن إلى جوار ربه حتى يأتيه خبر موت جديد لأحد سكان الحي وعليه أن يذيعه على الملأ فوراً. كانوا يدفنون القتلى فوراً أما المآتم فكانت تجري في صالة المسجد مساءً وعلى ضوء الشموع بينما الشيخ عبد الرزاق يتكفل بقراءة ما تيسر من السور من القرآن على عجل لينفضّ المأتم بأسرع ما يمكن.

عادت فدوى لسرد الحكايات في سريرها بينما يستلقي إلى جانبيها كل من سعيد وسامي. كان سامي يتابع الحكايات وهو ينظر إليها بينما سعيد ينام قبل أن تنتهي الحكاية. وفي ذلك اليوم كانت تحكي بصوت خافت مشحون حين شعرت بسامي يلمس ذراعها برقة ثم صعدت يده إلى وجنتها وراحت تختبر نعومتها. تركته يفعل ذلك دون أن تبعد يده التي انتقلت إلى شعرها. ثم قرب شفتيه ولمس بهما أعلى ذراعها قريباً من الكتف. نظرت إليه فواجهتها عيناه السوداوان الجميلتان والرطبتان. ابتسمت له ثم مدت يدها ومسحت على خده. كادت تعود إلى إتمام الحكاية لولا أنها نظرت إلى جسده المستلقي بجانبها مع التصاق خفيف بها فشاهدت وسطه مرتفعاً على شكل خيمة. توسعت عيناها واجتاحتها موجة شبيهة بالكهرباء ولم تعرف ما تفعل بعينيها أو بفمها الجاف وشعرت بقلبها يغور في صدرها فخبأت وجهها في يديها وراحت تحاول التحكم بتنفسها.

ودون أن ترفع يديها عن وجهها طلبت منه أن يذهب إلى الصالة للنوم. نهض الصبي عن السرير. أزاحت إصبعاً فرأته يتجه نحو باب الغرفة دون أن يهدأ وسطه. نظرت إلى وجهها في المرآة فوجدته أحمر بينما كانت تبتسم بحرج كبير.

وفي اليوم التالي كانت تبتسم له كلما نظرت إليه. كان يحاول أن يبقى إلى جانبها باستمرار وعندما كانت تنظر إليه كانت تلاحظ كم هما ساحرتان ومشعتان عيناه. كان يحب أن يلمس ثيابها أو أي شيء يخصها حتى أنه كان يهرع ليلبي طلباتها.

وفي ليلة اشتد فيها القتال قرب الحي، أو ربما كانت المعارك تدور في الحي ذاته. جلسوا صامتين على ضوء شمعة وحيدة. نامت الجدة على سجادتها التي تصلي عليها بينما ظل سعيد ينق ويبكي خوفاً ومللاً. حاولت أن تحكي لهما حكاية ولكنها لم تتمكن من التركيز فهي أيضاً كانت خائفة. لكي تسكت ابنها وضعته في حجرها وألقمته ثديها. سكت الولد وراح يمتص الحليب. كان سامي ينظر. اقترب وراح يلمس الثدي. تركته يفعل فقد كان مشغولاً جداً بصدرها وليونة الثدي ثم مد يده ليخرج الثدي الآخر. حاولت منعه إلا أن الثدي كان قد تحرر فقرب وجهه ليمسك الحلمة بفمه عندها أوقفته وهي تضحك.

لا يا سامي لا، هذا ممنوع.. أنت لست صغيراً. أطاعها دون أن يفقد بريق عينيه. ظل ينظر حتى نام سعيد فأعادت ثديها إلى داخل ثوبها. أسند سامي رأسه على كتفها وقرب أنفه من عنقها متمتعاً برائحتها وبقي هكذا حتى هدأت المعارك وحان موعد النوم.

في الصباح ارتدت فدوى ثيابها ووضعت حجابها على رأسها تخفي شعرها ثم أخذت ابنها ونزلت إلى الشارع لتشتري له حلوى تجعله يصبر ويتوقف عن النق. كان الصباح هادئاً بعد أن توقف القتال في الليل. اشترت قطع الحلوى له ولسامي ثم اشترت باذنجان وبندورة وبرتقال وشموعاً وعلبة سكائر فقد راحت نفسها تهف لإشعال سيكارة من حين لآخر. حملت مشترياتها بيد وأمسكت يد ابنها بيدها الأخرى وشرعت بالسير باتجاه بيت الجدة حين سمعت صفيراً قصيراً جداً ثم انفجرت قذيفة.

انفجرت القذيفة في وسط الشارع مخلفة الأشلاء والدماء والغبار والحطام. حل الصمت وسط الغبار الكثيف ما عدا أصوات سقوط حطام هنا وهناك. بعد ذلك بنصف دقيقة بدأ الصراخ والبكاء وبدا الناس بالركض هرباً أو للبحث عن الجرحى. من ضمن الأصوات كان صوت بكاء سعيد وهو يصرخ: ماما.. ماما..

انشق الغبار عن الجدة وعن سامي يركضان بهلع قادمين للبحث عن فدوى وابنها. شاهد سامي الطفل سعيد منحن على جسد أمه الذي كان مشلوحاً ومنثنياً ومشوهاً. ركض إليهما تلحقه الجدة وهي تولول ممسكة برأسها. هبط على ركبتيه وتلمس الجسد الدامي والمغبرْ. كان الدخان يتصاعد من ثيابها. أمسكت الجدة بالطفل بينما راح سامي يتلمس فدوى. راحت الدموع تنهمر من عينيه لا يعرف ماذا يفعل. أراد أن يبكي، أن يضرب نفسه أو أن يصرخ ولكنه لم يستطع. انثنى على نفسه ثم سجد ممسكاً برأسه الذي لا يطيعه. حاول مرات عديدة أن يصرخ.

إلا أنه تمكن أخيراً من الصراخ. صرخ بقوة. كادت أحشاؤه تخرج مع الصرخة إلا أنه استمر في الصراخ. استقام ورفع وجهه إلى السماء وهو يصرخ.

قصة العزلة

جلست كعادتي قرب النافذة انظر إلى الخارج. لا شيء أفعله هذه الأيام لأن القلق يمنعني من العمل. هذه النافذة مدهشة فهي تطل على ساحة خضراء واسعة يحدها في طرفها الأيسر حزام من أشجار الزيزفون التي بدأت براعمها الخضراء منذ مدة بتلوينها بالأخضر الفاتح.

كوفيد مرعب وقد ألزمونا بالحجر. لا أخرج إلا لشراء ما احتاجه من الأطعمة فالحجر الألماني ليس قاسياً جداً فبإمكان الناس الخروج للركض أيضاً أو للمشي كما هو حالتي. في الأمس لاحظت أنهم وضعوا شريطاً يمنع الناس من الجلوس على مقاعد الحديقة القريبة التي أتمشى فيها كل يوم، أيضاً وضعوا الشريط حول الفسحة المخصصة للأطفال في الطرف الآخر من البناء. هذه الأشرطة تصيبني بالقنوط وتعطيني انطباعاً بأن الدنيا ليست بخير.

رأيت تلك المرأة تمر من تحت نافذتي. لقد لفتت انتباهي في الماضي بهدوئها وأناقتها وشعرها الأبيض. إنها في الثمانين وأنا أرجح بأنها فقدت رفيق عمرها منذ فترة قريبة وبقيت وحيدة. انها الآن تمشي داخل المجمع السكني مرتدية معطفها المطري باهت اللون وسرعان ما ستعود إلى بيتها الحزين مثلها بعد ان تستكمل دوراتها الخمس أو الست اليومية. تابعتها بنظري حتى اختفت خلف المنعطف.

أنا مثلها تماماً. أعيش وحيداً في غرفة في أحد المباني السبعة التي تشكل المجمع. لقد بني المجمع على عجل بعد الحرب لاستيعاب بعض العوائل الكثيرة التي شردتها تلك الحرب الملعونة بعد أن تدمر معظم مساكن برلين. أعيش وحيداً لأنني تركت بلدي الذي كانت تدمره أيضاً حرب أخرى والتجأت إلى برلين التي تم إعادة بناء كلِّ شيء فيها.

قبل كوفيد كنت أعرف ماذا أفعل في حال أصبت بنوبة قلبية أو غيرها. أما الآن، مع كورونا، فلا أحد يجيب على الاتصالات، بل يشغلون تسجيلاً صوتياً بأن عليك ألا تزور عيادة طبيبك. في الأسبوع الماضي كنت محتاجاً لوصفة جديدة لدوائي الخاص بضغط الدم. يقول التسجيل أيضاً بأن علي أن أرسل رسالة بالبريد وأطلب ما أحتاجه على أن أرسل بطاقة تأميني الصحي. بعد أربعة أيام أعادوا البطاقة مع الوصفة المطلوبة ولكن الدواء كان مختلفاً، وجدت في الظرف ملاحظة مكتوبة بخط يد طبيبتي تشرح لي بأنها غيرت الدواء لأن ملاحظات الأطباء الذين كانوا يكافحون الفيروس في إيطاليا وجدوا بأن الدواء السابق خطير على أمثالي في حال ظهرت عليهم الأعراض.

أكره سماع التعليمات المسجلة على الهاتف، أموت لأسمع صوتاً بشرياً يجيب على مخاوفي وأسئلتي.

الرعب يشلني. انا لا أقصد الخوف من الموت، ولكن ماذا لو انتقل إلي المرض وكان علي أن أمضي أربعة عشر يوماً وحيداً ومريضاً دون حتى إمكانية الذهاب إلى المتجر لشراء الطعام أو إلى الصيدلية لشراء الدواء. ذهبت لصرف الوصفة من الصيدلية القريبة. استخدمت شالاً لأحمي به انفي وفمي. المشكلة هي أن الوباء فاجأ العالم ولم يكن أحد مستعداً وكانت وسائل الحماية الشخصية، خاصة الكمامات والمعقمات، أقل بكثير من الحاجة. لم أستطع إيجاد أي منها لا في الصيدليات ولا في أي متجر آخر. يقولون إنها كانت ترسل، في الأسابيع الأولى، إلى المشافي التي هي نفسها كانت تعاني من قلة وسائل الحماية الشخصية وبسبب ذلك كانت العدوى تنتقل إلى الأطباء والممرضين.

لدي جارة هنا تسكن هي وصديقها في شقة كبيرة في نفس الطابق الذي يضم شقتي الصغيرة. كانا قد تبنيا كلباً ظريفاً أحببته من النظرة الأولى. لقد أحبني هو أيضاً وكان يحاول الإفلات من صاحبته في كل مرة يراني فيها ويهرع إلي ليشمني ولأمسح على رأسه. وعندما كنت أعود إلى البيت ليلاً كنت اسمعه يطلق صوت حنين مؤثر من خلف باب شقتهم. كثيراً ما كنت أقف على نافذتي لأشاهده حين تقوم الجارة بإنزاله إلى حديقة المجمع للسير ولجعله يقضي حاجته. كنت أشعر بأن لدي صديق أفرح به حين نلتقي. بعد كوفيد أصبح سكان البناية، حين يلتقون أثناء الصعود والهبوط على الدرج، يحافظون على التباعد. كان الواحد منا ينتظر، في الزاوية البعيدة، كي يمر الآخر مع الاكتفاء بتحية سريعة مصحوبة بابتسامة والتمني بيوم سعيد. أما تلك الجارة صاحبة الكلب فكانت تحاول ضبط الكلب ومنعه من الاقتراب مني حين نلتقي. كانت تعتقد بأن الكلاب تنقل العدوى رغم أنني كنت قد قرأت دراسة بأن الكلاب لا خوف عليهم من نقل العدوى. كنت أنظر إليه حين الصعود أو الهبوط فتلتقي أعيننا وأعرف أنه مازال يحبني مثلما كنت أحبه.

لم نكن، نحن سكان البناية، نتبادل الزيارات. كنا نتبادل بعض الأحاديث حين نلتقي على الدرج أو في الفسحة الخضراء حول المبنى. هناك زوجان لطيفان في نهاية السبعينات يسكنان في الطابق الثاني. كنا نتوقف مطولاً لتبادل شتى أنواع الأحاديث. المرأة تعاني من مشكلة في فقرات ظهرها وقد أجرت عملية جراحية لتصحيح الخلل إلا أن الأمور زادت سوءاً وأصبحت تعتمد على مشّاية حين تخرج هي وزوجها من البيت. أخبراني مرة أن الزوج بولوني الأصل بينما الزوجة من شرق ألمانيا. كان الزوج يحب تبادل الأخبار معي بينما تجلس الزوجة على حزام مشّايتها لأن الحديث يطول عادة. كان يسألني في كل مرة عن أخبار الحرب في بلدي، وفي إحدى المرات التقى على الدرج بصديقة لي فسألها مستفسراً “كيف هي الأحوال في بلادكم قبل أن تأتي لزيارة والدك؟” إنها ليست من بلادنا بل من هولندا وهي تصغرني بعشر سنوات كما إنها ليست ابنتي بل زميلة لي. وفي مرة أخرى أخرج زجاجة نبيذ وشرح لي بسرور كيف أنه وجد أخيراً نبيذاً خالياً من الكحول. بعد أسابيع وجدت مثل هذا النبيذ في المتجر فاشتريت له زجاجة وقرعت بابهم وسلمتها له. توقفنا مؤخراً عن تبادل الأحاديث وأصبحنا نكتفي بإلقاء التحية والإسراع بالابتعاد. أصبحت أعاني من العزلة أكثر مما كان عليه الحال قبل كورونا.

أمضي نهاري وأنا أقرأ بجانب النافذة، وفي كثير من الأحيان أنسى الكتاب لأنظر مطولاً إلى الخارج. أقرأ الأخبار السياسية على الويب وكذلك أخبار الفيروس. أهتم بقراءة عدد الإصابات الجديدة يوماً بيوم وكذلك عامل إعادة الانتاج R. إنني معجب بطريقة الألمان الواقعية في التصدي للفيروس، ولأن الناس هنا يكنون احتراماً كبيراً لأنجيلا ميركل فهم ينصاعون للتعليمات لأنهم يعلمون أنها تشرف على هذا الأمر معتمدة على العلوم. إنني معجب بها مثلي مثل معظم الألمان.

أقيس حرارتي مرة على الأقل يومياً وكذلك ضغط الدم. في كل مرة أقول إن كل شيء على مايرام “حتى الآن”. أتناول حبوب الإفطار مع الشوفان وبعض المكسرات والقهوة بالحليب، بعد ذلك أغسل الصحون ثم أتناول الفيتامينات لتقوية جهاز المناعة وأيضاً حبة أسبرين لتمييع الدم. في الثانية عشرة أتناول أدوية الضغط ثم أخرج من البيت للمشي أو للتبضع, عندما أعود، أجلس من جديد بجانب النافذة لأنظر إلى القلة القليلة من الناس الذين يخرجون من المنزل. أقرأ في كتابي وسرعان ما تحتلني ذكريات الماضي البعيد، زمن ما قبل ألمانيا.

أتذكر أبي الصارم الذي أحببته أكثر بعد أن أصيب بالزهايمرز فكان يسألنا من نكون في كل مرة نزوره فيها. مرة سأل أمي عن اسمها ثم سألها إن كانت متزوجة أم لا وكم طفلاً لديها. وعندما أخبرته بعدد أولادها قال لها “وأنا أيضاً لدي مثل هذا العدد من الأولاد”. مات بهدوء بينما كنا متحلقين حول سريره. مات الرجل الصارم وهو يبتسم. لا أعرف لمَ أتذكره كثيراً هذه الأيام. ماتت أيضاً زوجتي بسبب مرض عضال، أما بعد أن تركت البلد والتجأت إلى ألمانيا فقد أخبروني أن أخي الأكبر قد مات ثم ماتت أمي حزناً عليه.

قلما يرن هاتفي. يبدو أن الأصدقاء يحسبون أنهم يتركونني وشأني. ولكنني بحاجة إلى التحدث مع أيٍ كان. أنجح في اجراء اتصال مع أحدهم فنتبادل الأخبار، على الأغلب عما نفعل هذه الأيام، أيام الحجر والبقاء في البيت، إنهم ليسوا مثلي فلديهم زوجات وأطفال من حولهم. أتصور أنهم سعداء ولكن أحدهم شرح لي كيف أن الحجر مع الأسرة شيء لا يطاق. يقول لي إنه يحسدني على وحدتي وإنه يكاد يجن بسبب صراخ الأطفال المستمر أثناء لعبهم بالـ “بلاي ستيشن”. أثناء حديثي معه أسمع صراخ أطفاله ثم صوت زوجته تحاول إسكاتهم. أغلق الخط وأتنفس الصعداء. في اليوم التالي أتصل مع صديق آخر يسكن في برلين بمفرده. لقد جاء من باريس في عمل لأنه يرأس جمعية تعنى بأمور المرأة اللاجئة. علق في برلين بعد أن أغلقوا الحدود بين البلدين. هو لا يتكلم الألمانية فلا يعلم كيف يطلب النجدة إذا ما اضطر إلى ذلك. يشرح لي رعبه من الوباء لأنه يعاني من الربو المزمن. يقول لي إن أمثاله لا يسلمون. يقول إنه حصل على دستة من حبوب الـ “هيدروكسي كلوروكوين” من السوق السوداء ليتناولها إذا ما أصيب بالعدوى.

في المساء أحضر مختلف المناسبات الثقافية على “الزووم”. اختار موضوعاً ثم انتظر إلى حين حلول الموعد. اطرح سؤالاً فأشعر بالألفة. حضرت مرة نقاشاً حول تأثير الإغلاق على الحالة النفسية لكثير من السكان الذين يعيشون بمفردهم مثلي. هنا في برلين نسبة كبيرة من السكان يعيشون بدون شريك. أرسل لي مرة أحد الأصدقاء مقطع فيديو لمعالج نفسي يقول فيه إنك تستطيع، في حالة الإغلاق، أن تتحدث إلى أي شيء في البيت مثل الورود أو الشموع. قال إن ذلك طبيعي ولا يستدعي القلق. ولكن، كما قال، إن بدأت هذه الأشياء بالتحدث إليك فعليك أن تتصل بنا.

طال شعري وأصبحت بحاجة إلى الحلاقة. كما أنني أطلقت لحيتي لسبب ما أظنه ليتلاءم مع رأسي. كان مظهري يدعو إلى الأسى، كيف لا في مثل هذا الظرف الذي يسود فيه القلق والوحدة والأرق والوقوع في أسر الذكريات الأليمة. ولكن الأمر تغير في النصف الثاني من شهر نيسان، فقد تم تخفيف الإغلاق فسمحوا لبعض المتاجر بفتح أبوابها ضمن شروط محددة كما سمحوا لصالونات الحلاقة باستقبال الزبائن من جديد.

حلقت لحيتي، ممنوع حلاقة الذقن عند الحلاق، ثم قمت بزيارة صالون الحلاقة الذي اتردد عليه عادة. شعرت بشيء من السعادة وأنا أسير عائداً إلى البيت برأس محلوق ومرتدياً الكمامة. كانت الشمس مشرقة فاتخذت طريقاً أطول من المعتاد.

الشرشف

اقتربت من البيت الذي طالما دخلته أو تلصصت إلى باحته من إحدى طاقات غرفتي العلوية التي تشرف عليها . كان ذلك قبل أربعين عاماً ، أي كان كل منا في الخامسة عشرة من عمره . لا يزال البيت على حاله رغم تغير حال الحي ، فقد زحف التمدن والتحديث إلى كل جوانبه بما فيها الطريق التي كانت مرصوفة بالحجارة أما الآن فقد استبدلت بالإسفلت ، هنا كانت تسكن من خفق لها قلبي خفقته الأولى وتصارعت لأجلها مع صديقي الوحيد آنذاك لقد استهوته الفتاة فصرح لي بذلك، فشعرت حينها بغيرة عظيمة تنهش لي صدري ، فأنا لم أبح بحبي لها إلى أيٍّ كان حتى لصديقي ذاك الذي جاء يتفاخر أمامي بأنه قد كبر بشكل كافٍ ليحب ابنة حارتنا الجميلة . حينها تصارعنا فغلبته ، فقد كان ضعيف البنية أما أنا فقد كنت أطول منه وأجسم .. وحينما نهضت عنه دون أن أواصل ضربه أخبرته أنَّ لاشأن له بها ، فهي لي وحدي وهي تشاركني نفس الشعور . وقد دام استغرابه وحنقه لعدة أيام ثمَّ جاء إلي في المقبرة بينما كنت أطير طائرتي الورقية وجلس إلى جانبي فتصالحنا ولم يأت على ذكرها بعد ذلك إلا باحترام شديد وبشكل يشي بأنَّه قد تخلى لي عنها إلى الأبد . ولكننا سافرنا إلى المهجر على أمل العودة بعد سنة واحدة أو اثنتين . وهاأنذا أقف أمام الباب بعد أربعين عاماً دون أن يكون لدي علم بما قد يكون قد حصل لفتاتي خلال تلك السنوات الطويلة أو لصديقي ذاك الذي كان اسمه رضا وكنت أناديه بأبي الروض .

طرقت الباب وانتظرت . كان شعوري حينها وكأنِّي قد عدت صبياً في الخامسة عشرة . كان الوقت بعد صلاة العصر وكانت الحارة هادئة كما تركناها حين سافرنا هرباً من الجوع . كان قلبي يدق بعنف وعقلي يبحث عن الكلمات المناسبة لتبرير غيابي طول هذه السنين . فتح الباب وأطلَّ رأس امرأة . أو قل بانت عين لامرأة تريد أن تعرف من بالباب . سألتني عن غايتي فعرفتها من صوتها الذي بقي له جرس غريب ومحبب إلى نفسي ، وعندما أخبرتها بصوتي المتهدج أنني فلان صمتت للحظات وجدتها طويلة جداً ثمَّ اعتذرت وطلبت مني الانتظار ، وغابت قليلاً ثمَّ عادت وقد تحجبت لتسمح لي بالدخول .

جلسنا متقابلين في باحة الدار ثمَّ خيم علينا الصمت . كانت السنونو تحوم حول شجرة ذكر التين التي أصبحت تظلل كامل الباحة وتحجب طاقتي التي طالما كنت أمد فيها رأسي ساهراً الليالي أتلصص على معشوقتي .. أحسست بالراحة واطمأننت إلى أنَّه لن يكون هناك أحد يتلصص علينا في جلستنا الهادئة تلك .

كانت مثلي قد تجاوزت الخمسين من عمرها ولكنها ظلت على جمالها الأخاذ . كانت تنظر إلي خفية وعندما كنت أرفع إليها عيني كانت تحول عينيها إلى أي شيء آخر .. سألتني عن حالي وكأنَّها تشمت بي . فقد بان علي الهرم أكثر منها بكثير بسبب الورم الخبيث الذي كان أصابني وجعلني قاب قوسين من الموت. أخبرتها وكأننا كنا نهمس لبعضنا بكلام لا نريد للصغار أن يستمعوا إليه ، قلت لها بأنني قد عدت إلى البلد ، وإنني أحن إلى تلك الأيام . أخبرتها بأنني أرمل وبأنني وحيد وبأنَّ استقبالها لي قد أعاد إلي ما كان قد ضاع مني يوماً . ثمَّ، وبصوت خافت، سألتني عن عدم وفائي بوعدي لها بأنني سأعود .. ماذا أقول لها ؟… احترت بذلك حتى بان جبني .

كنت قد لاحظت بأنها كثيراً ما كانت ترنو إلى أحد الأبواب ، وتصورت بأنَّ أمها أو أختها الأصغر ، التي كنت أعرفها طفلة رضيعة في ذلك الحين ، تختبئان في الغرفة . سألتها إن كانت قد تزوجت فأجابتني بسؤال آخر : ماذا كنت تعتقد ؟ حينئذ صمت ، فقد كنت أخرق بسؤالي ذاك. ماذا كنت أريد ؟.. هل كنت أرغب في أن تقعد هنا وتنتظرني أربعين عاماً .. وعندما سألتها عما حدث بصديقي رضا ، ابتسمت برخاوة ثمَّ نهضت ودعتني لكي أتبعها .

تبعتها إلى الباب ذاته الذي كانت ترنو إليه باستمرار ، وعندما دخلنا صدمتني رائحة جسد بشري وحرارة عالية ليس لها ضرورة كما اعتقدت حينها . كانت الغرفة تقبع في عتمة مقيتة يزيد في غرابتها الصمت المطبق الذي كان يلف الغرفة وكأنَّها قبر كبير وحار . حتى هي كانت تتحرك بخفة فلا تحدث أي صوت مهما كان . وكذلك كنت أفعل بسبب تقليدي لها بكل ما كانت تقوم به . وعندما تمنيت أن تشعل أي ضوء . فعلت ذلك من تلقاءِ نفسها وكأنَّها سمعت تمنياتي التي لم أجرؤ على البوح بها .

كان النور الذي أضاءته ضعيفاً جداً وكان مصدره مصباح كهربائي متوضع خلف ستارة منعاً للضوء المبهر، تتبعتها بنظري فشاهدت سريراً في الزاوية البعيدة .

أصابتني رعدة قوية وجفَّ حلقي، فقد كان هناك جسد نحيل متمدد على السرير مغطى بلحاف سميك. وبسبب النور الضعيف لم أتبين وجه الجسد فاضطررت للحاق بها والوقوف إلى جانب السرير ورحت أحدق جاحظ العينين بالوجه . لم أعرف الرجل الذي كان نائماً ويتنفس بنعومة فقد كان مصفراً وغير حليق الوجه وكانت تفوح من إناء، متوضع إلى جانب السرير، رائحة البول النفاذة. نظرت إلى وجهها متسائلاً ، فقد كنت مشوشاً إلى حد لا يمكنني فيه من حل هذا اللغز ، ولكنها لم تجب ، بل ظلت لوهلة تحدِّق بي بعينيها اللتين قستا ثمَّ انحنت حتى اقترب فمها من وجه الرجل النائم وهمست له بأنني هنا وأريد أن أراه .

يا لرعبي، فقد فتح الرجل عينيه ونظر إلي مباشرةً . كان هو رضا .. أبا الروض . كدت أتراجع لكنني تماسكت مؤملاً أن يكون كل ذلك حلماً سرعان ما يتبدى .. ولكن الرجل، الذي عرفني من فوره، راح يلفظ اسمي عدة مرات بطريقة غريبة وبلسان ثقيل ، ثمَّ راح يبكي .. لم يقل سوى .. انظر ماذا حدث لي .. اختنقت الكلمات في حلقه فجعل يبكي فحسب. عندها اقتربت منه وأمسكت بيده من فوق اللحاف السميك ، والذي أراد أن يقوله بلسانه قاله لي بعينيه . لقد استطاع أن يحصل عليها وأصبحت من نصيبه ، ولكنه الآن يخاف أن يموت ويتركها وحيدة . ولكي تضع حداً لألمه ، طلبت مني أن نعود إلى جلستنا تلك تحت شجرة ذكر التين . ألقيت عليه نظرة سريعة ثمَّ هربت إلى الخارج ، وهناك تنفست بعمق عدة مرات فقد كنت أحس أنني أختنق .

بعينين دامعتين أخبرتني بأنَّ رضا قد شُلّ منذ عشر سنوات إثر عملية تجارية خاسرة ، ثمَّ راحت تسرد لي عذابه الأليم منذ ذلك اليوم حتى الآن .. وعندما كانت تتذكر سعادتهما قبل الحادث كانت تنخرط في بكاء مر . حينها ، وربي يسامحني ، شعرت بالغيرة ، لم يحصل عليها فحسب ، بل حصل على دموعها أيضاً . كانت تبكيه بحرقة ، بينما أنا الذي كانت تحبه ، أصبحت شاهداً فحسب . أنا ، الذي أموت الآن بسبب مرضي الخبيث ، لا أجد من يبكي علي بدمعة واحدة .. كم أنت محظوظ يا أبا الروض .. لكي تبكي عليك أجمل امرأة في الكون !!

لم استطع المكوث أكثر ، فقد كنت أتألم على نفسي وخفت أن أنفضح فودعتها بعد أن وعدتها بالعودة لأراه في يوم آخر . وعندما خرجت إلى الطريق ، لكمت الحائط من غيظي فأدميت يدي ، فقد كنت الخاسر في كل هذا رغم عجز رضا .

عدت إليها بعد اسبوع قضيتها في تدريب نفسي على التأقلم مع انهزامي الجديد .. وعندما اقتربت من الباب وجدت ورقتي نعي لرضا ملصوقتين على جانبيه ولا تزالانِ طازجتين . شعرت ، وليسامحني ربي مرة أخرى ، بشعور لا أستطيع شرحه . هنا طرقت الباب ورحت انتظرها لتفتحه لي بينما مشاعر الانفعال والحزن تختلط بعضها ببعض. ولكن، لم تكن هي من فتحت الباب ، بل امرأة غريبة متلفحة بالسواد . لا يظهر منها سوى عينين سوداوين متعبتين من طول البكاء . ارتبكت قليلاً بفعل المفاجأة ولم أعرف ما أقول .. ولكنني في النهاية ذكرت اسمي وطلبت مقابلة سيدة المنزل . حدقت بي بعدائية وكأنني قلت شيئاً مريباً ، ويبدو أنها قد لاحظت إصراري فأطبقت الباب من جديد وتراجعت عنه دون أن يبدر عنها أي صوت .

أدخلتني المرأة إلى غرفة أخرى غير التي كان فيها المرحوم وطلبت مني ، بحركة من يدها، الجلوس بقرب شرشف يقسم الغرفة إلى قسمين ، ثمَّ جلست قبالتي ولكن بعيداً عني وجعلت تحدق بي من خلف حجابها الذي أصبح يغطي كامل وجهها . كان الوضع يثير فيَّ الرعشة بسبب غرابته ، وكان علي أن أهرب بناظري بعيداً عن المرأة الجالسة قبالتي ، ثمَّ إنني لم أكن أعرف سبب وجود الشرشف المعلق إلا بعد أن جاءني صوتها رخيماً من خلفه. رحبت بي ثمَّ اعتذرت لأنَّها لا تستطيع مقابلتي وجهاً لوجه . كان صوتها كأنه يأتي من بعيد وكأنَّ الشرشف يفصل عالم الغرفة عن باقي الكون. قلت لها :

– البقية في حياتك ، فغمغمت تعزيني بالكلمات عينها ثمَّ ساد الصمت من جديد. تمنيت أن تزيح الشرشف وأن تأتي إلي ، وعندما كان يطول الصمت كنت أخطئ فأنظر إلى المرأة المتحجبة فأراها تراقب كل حركاتي وكأنها متأهبة للانقضاض علي إذا ما أتيت بفعل غير مناسب . ومن أجل أن تجعلني أتحدث سمعتها تسألني عن أهلي ، عن أمي وأبي وأختي . أخبرتها بأنهم جميعاً أموات وبأنَّ أختي قد تزوجت في المغترب من رجل لا تحبه فماتت وهي لا تزال صبية . تأسفت عليها ثمَّ ترحمت على أرواحهم ثمَّ سمعتها تردد أن الحياة هي هكذا ، فقلت لها نعم ، إنها كذلك .

أردت أن أرسل المرأة إلى الخارج لأتكلم مع معشوقتي بحرية ، فطلبت منها أن تحضر لي كأساً من الماء ، ولكنها عوضاً عن أن تخرج رمقتني بقسوة من خلف حجابها ثمَّ مدت يدها والتقطت إناء من الفخار ووضعته على الأرض في منتصف المسافة بيننا ، ثمَّ أخذته وبللت شفتيّ فحسب ثمَّ أعدته إلى مكانه بغيظ مقرراً أن أتكلم رغم وجودها. قلت لحبيبتي الجالسة خلف الشرشف :

– لقد ابتعدت عنك طول هذه المدة ولكنك لم تغيبي عن ذهني وقلبي أبداً . معك شعرت بأجمل شعور تملكني في حياتي كلها ، ثمَّ إنني سميت هذا الشعور باسمك .. فقد كنت أقيس شعوري تجاه كل النساء اللواتي عرفتهنَّ بمدى قربه أو بعده عن شعوري نحوكِ.

صمتُّ لأسترد أنفاسي. كانت المرأة الجالسة قبالتي متأهبة في جلستها كنمرة شرسة، بينما حبيبتي الغائبة خلف الشرشف لا يصدر عنها أي صوت أو نأمة .. تابعت أقول رغمَ كل ذلك :

– أنا مريض ، ومرضي من النوع الخبيث ، وقد أخبرني الأطباء أنني لن أعيش لأكثر من شهرين أو ثلاثة ، أرجوكِ .. أريد أن أمضي آخر أيامي معك وبسعادة ..

سمعتها تسأل بارتباك عظيم . ماذا ..؟ فأكدت لها مرة أخرى ما قلته لها .. ثمَّ سمعتها تتأوه .. حينئذ نهضت المتحجبة وكأنَّها لدغت من حشرة سامة ثمَّ انتقلت إلى خلف الشرشف . راحتا تتهامسان ، وربما كانت المرأة المتحجبة تجادل و تطلب منها أن تطردني ، ولكنها عادت في النهاية للجلوس قبالتي بينما زاد احتقارها لي وأصبحت نظراتها غير محتملة ، ورغمَ ذلك أهملتها وأنا أتطلع إلى الشرشف منتظراً جواب معشوقتي .

شيئاً فشيئاً جاءني بكاؤها ناعماً ومؤثراً . في داخلي شعرتُ ببهجة. هاأنذا أثير فيها حزناً وأجعلها تذرف الدموع من أجلي وعلي . سمعتها تسألني وهي تتأوه :

– لماذا تخبرني بذلك ؟ فقلت لها وأنا أزداد شجاعة :

– كان علي ذلك يا .. أرجوكِ أن تصفحي عني ، ولكن ما رأيكِ بما طلبته منكِ .. فأنا في حاجة إليكِ يا مليكتي ، دعيني أسعد بكِ قبل أن أموت حتى لو كان ذلك لأسابيع قليلة ..؟

ران الصمت من جديد ما عدا بقايا بكاء كنت أسمعه من الطرف الآخر للشرشف . كانت المرأة المتحجبة تتأهب لطردي ، قالت معشوقتي وهي تغالب الانخراط في البكاء من جديد:

– هذا مستحيل . حتى لو أردتُ ذلك لما استطعت ، فأنا قاعدة الآن في العدة . سيدوم ذلك أكثر مما لديك من زمن .

ثمَّ عادت إلى البكاء. أما أنا فقد وجمت ، فلم أستطع قول شيء آخر فصمت منهزماً .. لقد احتلها رضا حتى لما بعد مماته ، هل يكفي أنني جعلتها تذرف علي بعض الدموع كما فعلت من أجله ؟.. نهضت في نفس الوقت الذي كانت تطلب مني الرحيل .. ودعتها بغمغمة ثمَّ خرجت تلحق بي المرأة المحجبة ، وعندما فتحت الباب لأخرج ، استدرت وألقيت نظرة أخيرة إلى شجرة ذكر تين، فلمحت المرأة وهي تهزأ بي من تحت الحجاب ثمَّ صفقتْ الباب خلفي .